مهرجانات التهويد في القدس- تزييف الهوية وطمس المعالم

تواجه القدس المحتلة تحديات جمة ومعقدة تتجسد في محاولات تهويد المدينة المقدسة. تسعى أذرع الاحتلال المتعددة، من مؤسسات ومنظمات وخطط ممنهجة، إلى بسط نفوذها على كل شبر من القدس دون هوادة. الهدف الأسمى لهذه المساعي الحثيثة هو تغيير معالم المدينة المحتلة وطمس هويتها العربية والإسلامية الأصيلة، وتزييف تاريخها العريق، والنيل من روحها الثقافية والفنية والمعمارية والحضارية المتفردة. ولتحقيق هذه الغاية، يلجأ الاحتلال إلى مختلف الوسائل والأساليب، وعلى رأسها تنظيم المهرجانات الضخمة التي تقام في رحاب القدس المحتلة.
في مقابل التضييق الخانق على الفعاليات الثقافية الفلسطينية ومنعها في القدس المحتلة، وقمع أية مبادرات شعبية في هذا الشأن، تنظم سلطات الاحتلال وأذرعها باقة متنوعة من الفعاليات التهويدية الكبرى. تتخذ هذه الفعاليات من الثقافة والفنون وال gastronomie وغيرها ستارًا رقيقًا لتمرير أجندتها التهويدية الخبيثة. تتركز أغلب هذه الفعاليات في فصل الصيف، وتستهدف أبرز المعالم التاريخية والأثرية في المدينة. ونسلط في هذا المقال الضوء على بعض هذه المهرجانات، وعلى رأسها "مهرجان القدس السينمائي الدولي"، و"مهرجان الأنوار"، و"مهرجان أوتو فود"، و"فعالية شيش بيش"، وغيرها.
أهم المهرجانات التي تنظمها أذرع الاحتلال
تشهد القدس المحتلة بشطريها عددًا هائلًا من المهرجانات المتنوعة. وسنركز في السطور التالية على المهرجانات التي تُقام بصورة كاملة أو جزئية في الشطر الشرقي من القدس المحتلة، والتي تسعى أذرع الاحتلال من خلالها إلى استهداف معالم القدس ورمزيتها:
1- مهرجان القدس السينمائي الدولي:
وهو احتفالية سينمائية دولية مرموقة تُقام في القدس المحتلة سنويًا، وتعتبر من أبرز المهرجانات السينمائية التي تشهدها الأراضي المحتلة. وعادة ما تُعقد فعالياته في شهر يوليو/ تموز من كل عام، وتنطلق عروضه في أحد المواقع الأثرية البارزة في القدس المحتلة، وهو موقع "برك السلطان" التاريخي.
تُعرض في هذا المهرجان نخبة من الأفلام السينمائية المشاركة، سواء كانت إسرائيلية أو أجنبية، في فضاء هذا الموقع الأثري العريق، بالإضافة إلى صالات العرض والقاعات الموجودة في الشطر الغربي من القدس المحتلة. كما يشمل المهرجان تنظيم سلسلة من المحاضرات والندوات وورش العمل الموجهة للجمهور المستوطن. ويتم عرض الفيلم الفائز بجائزة "فولجين" المرموقة للسينما الإسرائيلية -وهي أرفع جوائز المهرجان- في مكان مفتوح.
ومن المقرر أن تنطلق فعاليات دورة عام 2025 من المهرجان في الفترة ما بين 17 و26 يوليو/ تموز المقبل. وفي عام 2024، وعلى وقع الإبادة الجماعية التي يشهدها قطاع غزة، أعلن القائمون على المهرجان عن مشاركة نحو 70 ألف مستوطن في فعالياته المختلفة.
2- مهرجان "إسرائيل" للثقافة:
يُعد هذا المهرجان من أبرز الفعاليات الثقافية المتنوعة التي تشهدها الأراضي المحتلة عامة، والقدس على وجه الخصوص. يُقام في فصل الربيع من كل عام، ويمتد لعدة أسابيع، وتتركز معظم فعالياته في الشطر الغربي من القدس المحتلة.
انطلقت فعاليات هذا المهرجان في عام 1961 في مدينة قيسارية المحتلة، ثم انتقل لاحقًا إلى القدس المحتلة في عام 1982. ومع مرور الوقت، توسعت مجالات اهتمام المهرجان لتشمل الرقص الشعبي، وفنون التمثيل، وموسيقى الجاز، والفنون التشكيلية، بالإضافة إلى تنظيم محاضرات يقدمها نخبة من الخبراء في مجالات الفنون والثقافة. وتقدم الفرق الفنية الإسرائيلية والعالمية عروضًا راقصة وغنائية في عدد من المواقع في الشطر الغربي من القدس المحتلة.
3- مهرجان "أوتو فود":
يُعتبر هذا المهرجان واحدًا من أبرز الفعاليات الصيفية التي تُقام في القدس المحتلة، ويهدف إلى استقطاب السياح للمشاركة في الفعاليات التهويدية التي تُقام في المدينة. يُقام المهرجان في حي وادي الربابة ببلدة سلوان، الواقعة جنوب المسجد الأقصى المبارك. ويضم المهرجان مجمعًا متنوعًا للطعام، ومنصات مخصصة للحفلات الموسيقية، وأكشاكًا لبيع مختلف أنواع المشروبات الكحولية، ومقاهي متنقلة، بالإضافة إلى أنشطة ترفيهية مخصصة للكبار والصغار. وتعمل بلدية الاحتلال على الترويج لهذا المهرجان منذ سنوات عديدة بهدف استقطاب آلاف المستوطنين من مدينة القدس وخارجها.
4- مهرجان الأنوار في القدس:
يمثل هذا المهرجان فعالية فنية تهويدية تُنظم في شطري القدس المحتلة، وتتركز فعالياته بشكل خاص في البلدة القديمة. وتعتبره سلطات الاحتلال من أبرز المهرجانات الجاذبة للسياح. وخلال فترة المهرجان، تتحول البلدة القديمة إلى ساحة صاخبة لعروض الرقص والغناء والفنون، مما يشوه من قدسية مركز البلدة القديمة ومكانتها الروحية. وتشرف على تنظيم هذا المهرجان عدد من الجهات الرسمية، بما في ذلك بلدية الاحتلال وسلطة تطوير القدس ومكتب القدس والتراث.
يقام المهرجان سنويًا في فصل الصيف، وتتركز فعالياته خلال ساعات الليل، بدءًا من بعد غروب الشمس وحتى ساعة متأخرة من الليل. ويتم خلال المهرجان استخدام الأضواء الضخمة وعروض الليزر والمؤثرات الصوتية لعرض مجسمات وأشكال فنية، بالإضافة إلى عرض انعكاسات هذه العروض على العديد من المواقع الأثرية في القدس المحتلة. كما يشمل المهرجان تنظيم حفلات غنائية ليلية صاخبة، ومسارات وجولات جماعية مجانية. وترتبط هذه العروض الضوئية ارتباطًا وثيقًا برواية الاحتلال حول القدس، وبالعناصر التهويدية الأخرى.
تستهدف فعاليات المهرجان التهويدي عددًا من المواقع المقدسة والأثرية في الشطر الشرقي من القدس المحتلة، بما في ذلك منطقة مدخل حائط البراق المحتل، وساحة منطقة القصور الأموية الواقعة جنوب وغرب المسجد الأقصى، ومنطقة باب العامود، بالإضافة إلى إضاءة سور القدس التاريخي، وساحة باب الخليل مرورًا بميدان عمر بن الخطاب، وحي الأرمن، وحارة الشرف وحارة النصارى، وصولًا إلى باب العامود ومغارة سليمان وشارع يافا.
فيما يتعلق باسم المهرجان، تستغل أذرع الاحتلال عيد "الأنوار" اليهودي لتجعله منصة إضافية لاستهداف هوية المدينة، تحت ستار الاحتفال بهذا العيد. فخلال هذه المناسبة، تنشر أذرع الاحتلال أعدادًا كبيرة من "الشمعدانات" في شطري القدس المحتلة، وتقوم بلدية الاحتلال بنصب شمعدانات ضخمة مضاءة في ساحة حائط البراق المحتل، وفي مناطق أخرى داخل البلدة القديمة وخارجها.
تعمل هذه الأذرع على تزيين الساحات العامة والشوارع المحيطة بالأضواء، وخاصة في الشطر الغربي من القدس المحتلة، وفي الأحياء التي تشهد وجودًا استيطانيًا مكثفًا في الشطر الشرقي من المدينة.
5- فعالية "شيش بيش":
هذه الفعالية هي عبارة عن نشاط تطبيعي تنظمه بلدية الاحتلال في منطقة باب الجديد، وتفرضه سنويًا وسط حوانيت المقدسيين ودكاكينهم وقرب أسوار القدس العتيقة. تتضمن الفعالية بطولة في لعبة "الشيش بيش" -النرد-، وتسعى من خلالها أذرع الاحتلال إلى إشراك الفلسطينيين فيها إلى جانب المستوطنين، في سياق محاولات تحويل الوجود الاستيطاني إلى أمر طبيعي ومألوف. ويتضمن المهرجان أيضًا فعاليات موسيقية يحضرها المستوطنون عادة.
6- مهرجان الخمور في مقبرة مأمن الله التاريخية:
في عام 2016، كشفت مصادر فلسطينية عن نية عدد من الشركات الإسرائيلية تنظيم مهرجان للخمور على أرض مقبرة مأمن الله التاريخية الإسلامية في القدس المحتلة، وذلك برعاية من بلدية الاحتلال آنذاك. وقد عرض في المهرجان أنواع عديدة من الخمور المحلية والعالمية، بالتزامن مع عدد من الحفلات الموسيقية الصاخبة. وشارك في المهرجان أكبر المطاعم والحانات الإسرائيلية.
المواقع التي تستهدفها هذه المهرجانات
تؤكد المعطيات السابقة تركز العديد من المهرجانات الإسرائيلية في عدد من المواقع الأثرية في القدس المحتلة، بل وينظم بعضها بالقرب من أسوار المسجد الأقصى وعلى بعض المقابر الإسلامية التاريخية. وتتخذ بعض هذه المهرجانات الإسرائيلية من الأماكن الأثرية منصات رئيسية لأنشطتها، وللاحتفال بختام فعالياتها، وبالطبع في مواقع لها رمزيات إسلامية كبيرة. ومن بين هذه المواقع المستهدفة، تبرز "برك السلطان" كواحد من المواقع الأثرية التي تتعرض للتشويه سنويًا من خلال فعاليات مهرجان "القدس السينمائي الدولي".
تقترب بعض هذه المهرجانات من المسجد الأقصى، على غرار مهرجان "أوتو فود" الذي يقام في حي وادي الربابة ببلدة سلوان، جنوب المسجد الأقصى المبارك، مستهدفًا بذلك منطقة ذات رمزية تاريخية ودينية عالية. ومثال آخر هو مهرجان الأنوار، الذي يركز في عروضه الضوئية على أسوار القدس المحتلة، ويتخذ من البلدة القديمة مسرحًا لعروضه الضوئية والفنية، في ترويج سافر لرواية الاحتلال ورمزياته، على مجموعة ضخمة من المعالم العربية والإسلامية، على غرار ساحة منطقة القصور الأموية الواقعة جنوب وغرب المسجد الأقصى، ومنطقة باب العامود، وغيرها.
لا شك أن اختيار هذه الأماكن ليس عشوائيًا، بل يتسق بشكل واضح مع سياسات الاحتلال الأخرى، التي تهدف إلى فرض سيطرة الاحتلال على أجزاء واسعة من القدس المحتلة، وتشويه هذه المعالم التاريخية الأصيلة.
تؤكد هذه الممارسات أن المهرجانات ليست إلا محاولة من قبل أذرع الاحتلال لاستغلال الغطاء الثقافي والفني لتهويد هذه المعالم المرتبطة بتاريخ القدس وواقعها، وذلك في سياق سياسة ممنهجة ومتدرجة لإعادة تشكيل هوية القدس المدينة في سياق الصراع الممتد بين اليهودي الطارئ والعربي-الإسلامي الأصيل.
التمويل المخصص لهذه المهرجانات
تكشف التفاصيل المتعلقة بهذه المهرجانات عن وقوف جهات رسمية إسرائيلية وراءها، مثل بلدية الاحتلال وسلطة "تطوير القدس" ومكتب القدس والتراث وسلطة الآثار الإسرائيلية وغيرها.
وفي سياق متصل بالتمويل، كشفت معلومات نشرتها صحيفة "جيروزاليم بوست" Jerusalem Post في عام 2006، وقبيل تنظيم النسخة الخامسة والأربعين من المهرجان، عن مصادر تمويل "مهرجان إسرائيل" للثقافة. وكشفت الصحيفة عن أن المؤسسات الراعية للمهرجان قدمت نحو 2.5 مليون شيكل، بالإضافة إلى 3.5 ملايين شيكل قدمتها وزارة الثقافة في حكومة الاحتلال. وتضمنت قائمة الداعمين للمهرجان عددًا من البنوك التي تراوحت المبالغ التي قدمتها ما بين 100 ألف و250 ألف شيكل. كما تضمنت قائمة الدعم مبلغ نصف مليون شيكل مقدم من بلدية الاحتلال في القدس.
لا يقتصر الدعم المالي على الدعم المباشر للمهرجان، بل يشمل أيضًا تهيئة البنية التحتية للمكان الذي يقام فيه. وفي حال انعقاد المهرجان في مكان أثري، تصبح هذه المشاريع ذات أبعاد متعددة تشمل تهويد المنطقة وفتح المجال أمام المزيد من المستوطنين والسياح الأجانب للمشاركة في هذه الفعاليات. ومن أمثلة هذه المشاريع ما أعلنت عنه بلدية الاحتلال في القدس بتاريخ 27/12/2022، في سياق استهداف بركة السلطان الأثرية، بالتعاون مع "مؤسسة صندوق القدس" وسلطتي الآثار والطبيعة والمتنزهات.
رصدت هذه الأذرع التهويدية ميزانية ضخمة بلغت نحو 100 مليون شيكل (نحو 30 مليون دولار أمريكي حينها)، على أن تتضمن زيادة عدد مقاعد مدرج المسرح الذي أقيم مكان البركة، ليستوعب 7 آلاف شخص، بالإضافة إلى إقامة مقهى وحديقة وبركة بيئية، ليتحول موقع البركة بحسب وصف البلدية إلى "أجمل منطقة للحفلات الموسيقية والحياة الليلية في إسرائيل".
الآثار المترتبة
توظف أذرع الاحتلال المختلفة هذه الفعاليات الفنية والثقافية في سياق تغيير المشهد الثقافي والتاريخي للقدس المحتلة. ولا تقتصر هذه الفعاليات الضخمة على هدف الترفيه فقط، بل تستخدم الحضور الجماهيري الكثيف وما تحمله هذه المهرجانات من رسائل، وصولًا إلى مواقع إقامتها، كمحاولات مستمرة من قبل الاحتلال لتغيير المشهد الثقافي للقدس المحتلة والرواية التاريخية الأصيلة لها، وتزييف حقيقة الوجود اليهودي في القدس. ومن المهم التركيز على جملة من الآثار المترتبة عليها، وهي:
- طمس الهوية الفلسطينية، وإبراز الرواية الإسرائيلية، من خلال توظيف الفعاليات الثقافية والفنية لإعادة بناء المشهد الثقافي للقدس المحتلة، وما يتصل بهذه المحاولات من تقديم المدينة المحتلة على أنها عاصمة دولة الاحتلال على الصعد الثقافية والفنية، بالتوازي مع محاولات ترسيخها عاصمة سياسية وإدارية لدولة الاحتلال.
في مقابل هذا العدد الكبير من الفعاليات، تعمل أذرع الاحتلال على منع تنظيم الفعاليات الفلسطينية، وتقمع أي نشاط ثقافي فلسطيني في الشطر الشرقي من القدس المحتلة، بل تغلق سلطات الاحتلال المؤسسات المدنية ذات الأهداف الفكرية والثقافية، في محاولة لإنهاء أي محاولة فلسطينية لاستنهاض الحالة الثقافية في شطر القدس الشرقي.
- تزييف معالم القدس التاريخية والأثرية، وتشويه رمزية هذه المواقع، وتغيير وظيفتها التاريخية، ومنع الفلسطينيين من الاقتراب منها أو زيارتها.
- تعزيز البنية التحتية الخاصة بالفعاليات الاستيطانية، تحت ذرائع المهرجانات أو إقامة الفعاليات الكبرى وغيرها، وهو استهداف حضاري طويل الأمد، يجعل من هذه البنية غطاء يخفي كنوز القدس الحقيقية.
- تعزيز الحضور الاستيطاني في الشطر الشرقي من القدس، من خلال جذب المستوطنين إلى هذا الجزء، وتركز جزء كبير من هذه الفعاليات في هذا الشطر.
- إعادة تصدير السردية الإسرائيلية، في كل فعالية تهويدية تنظمها أذرع الاحتلال، والترويج للرموز والدلالات والأفكار اليهودية والصهيونية، على حساب السردية الأصيلة، وما يرتبط بها بطبيعة الحال من حالة عامة تتعلق بالزينة والأمن وخنق حياة الفلسطينيين لتنظيم مثل هذه الفعاليات الضخمة.